خلق الله البشر وجعل لكل منهم همة
وإرادة فلا يخلو إنسان عن هم؛ ولذلك كان أصدق اسم يوصف به العبد أنه همام
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "... وأحب الأسماء إلى الله عبد
الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام..".
وجهة الصدق أن كل إنسان له إرادة وعنده اهتمام، كما قال المنذري: وإنما كان
حارث وهمام أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمام الذي يهيم مرة بعد
أخرى، وكل إنسان لا ينفيك عن هذين والله أعلم.
ولكن همم الناس تختلف بين علو وسفول وبين كبر وصغر وبين ضخامة ودناءة .
وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة .
فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب.
قيمة المرء على قدر همته:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة
تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب". (يريد همته ومطلبه وقصده).
وإنما كان الأمر كذلك لأن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها.. قال أحد
الصالحين: "همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت همته وصدق
فيها صلح له ما وراء ذلك من العمل".
وقال عبيد بن زياد : كان لي خال من كلب، فكان يقول لي: يا زياد هم فإن
الهمة نصف المروءة.
وعلامة كمال العقل ورجحانه علو همة صاحبه.. يقول ابن الجوزي: "من علامة
كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام"
ومعنى علو الهمة:
" استصغار ما دون النهاية من معالى الأمور" .. بمعنى أن يطلب المرء من كل
أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى
منه.
وقيل: "هو خروج النفس إلى غاية الكمال الممكن في العلم والعمل".
وقد فسر ابن الجوزي ذلك في صيد خاطره بقوله: "ينبغي لمن له أنفة أن يأنف
التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة ـ مثلا ـ تأتي بالكسب لم
يجز له أن يرضى بالولاية، أو تصور أن يكون خليفة لم يقنع بإمارة، ولو صح أن
يكون ملَكا لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها
الممكن في العلم والعمل".
وأعلى الهمم على الإطلاق هي التي لا تقف دون الله تعالى، ولا تطلب سواه،
ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه
والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها ولا حطامها الخسيس الفاني. كيف
والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب.
سقوط الهمة أصل الخذلان
إن سقوط الهمم وخساستها هو أصل ما وصلنا إليه من ذل وهوان وحقارة وخذلان،
وما من أمة يرضى أهلها بالأمر الواقع ولا تبلغ همم أبنائها أن يغيروه إلا
كان لهم الخزي والعار والذلة والصغار.
إن الهمم الكبار تغير التاريخ بل هي التي تسطره وتكتبه:
لقد رأينا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.. رجل واحد في
وسط عالم كامل من الشرك كيف عبّده بهمته لله رب العالمين؟.
ولقد رأينا أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كيف أسقطوا أكبر إمبراطوريتين
وأعظم دوليتين في زمنهم (فارس والروم) وفتحوا بلاد السند والهند والمغرب
والأندلس في فترة وجيزة هي كالحلم في عمر الزمان.
ولقد رأينا في زمان العز وعلو الهمم كيف كان المسلم في عهد صلاح الدين يربط
عشرات الأسرى في طنب خيمة.. ولقد باع مسلم أسيرا نصرانيا بنعل فلما سألوه
لماذا؟ قال: أردت أن يخلد التاريخ هوانهم وذلهم وأن رجلا منهم بيع بنعل،
فخلدها له التاريخ.
ثم مرت الأيام وقعدت الهمم ورأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم قعيد
الهمة (بل العدد منهم) أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب فيأتي بالسيف ليقتلهم
فيمنعهم الخوف أن يتحركوا حتى يعود إليهم فيقتلهم أجمعين!!
ومرت الأيام ورأينا كيف بيعت فلسطين بثمن بخس، وضاعت القدس، وسلب المسجد
الأقصى.
ومرت الأيام ورأينا كيف ضاعت العراق ورأينا كيف يركع الجندي العراقي أمام
نعلي الجندي الأمريكي طالبا منه العفو والصفح، وطالعتنا الأخبار بصورة رجل
هناك يقبل يدي جندي أمريكي شكرا له على تحرير البلاد!!
ومرت الأيام ورأينا في عصرنا شبابا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم إلا
عن السفاسف ومحقرات الأعمال، يمعنون في التشبه بالكفار في قصات الشعور وفي
أزياء الملابس، وبعضهم يعلق على سيارته أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم
وطأطأت أعناقهم وأهدرت كرامتهم واستعبدت أمتهم .
إن هذه الأمة إن أرادت أن تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها
فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها.. وإنما تعلو الهمم بأمور
خلاصتها تخلية وتحلية..
فأما التخلية فهي ترك مثبطات الهمم وأسباب انحطاطها.. ومنها:
أولا: حب الدنيا وكراهية الموت: وهما صنوان لا يفترقان، وقرينان لا
يختلفان من أحب الدنيا كره الموت ولابد.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، والانغماس في الشهوات
والتشاغل بها عن المهمات. وكراهية الموت يورث طول الأمل، والقعود عن
المكارم خشية المخاطر، والهمة لا تسكن قلبا جبانا:
حب السلامة يثني عزم صاحبه .. .. عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فحال خسيس الهمة كحال القائل :
أضحت تشجعني هند فقلت لها .. .. إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأمصار كعبته .. .. ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم .. .. إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم .. .. لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
فإذا أحببت الدنيا وكرهت الموت
فدع المكارم لا ترحل لبغيتها .. .. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ثانيا: الكسل والخمول: وهما منابت العجز، ولكنه عجز القادر على العمل
المتراخي عنه، المتثاقل إلى سفاسف الأمور، المتخلف عن عظائمها.. ومثل هذا
تراه دائما في ذيل الركب راضيا بأقبح الأعمال وأحقر الوظائف لقلة همته..
ولله در ابن الجوزي حين قال: "سفول همة الكساح أنزله في جب العذرة".
قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون
الآثار، وتناشدون الأشعار وقع عليَّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.
قال المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام
ثالثا: التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، كلما همت نفسه
بالخير أعاقها بسوف حتى يأتيه الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب.
فالتمني بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا .. .. إن المنى رأس أموال المفاليس
قال رجل لابن سيرين: رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح
فما تفسير ذلك؟ قال أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
رابعا: مصاحبة سافل الهمة: فيسرق طبعك منه فإن الطباع سراقة
ولا تجلس إلى أهل الدنايا .. .. فإن خلائق السفهاء تعدي
خامسا: الانشغال بحقوق الزوجة والأولاد: بمعنى الإمعان في تحقيق رغباتهم
وطلباتهم خاصة مالا حاجة له وإن ضاع لها العمر أو حمل ذلك على تعدي حدود
الشرع وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
(التغابن:14)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) .
موجبات علو الهمة
فلابد من تخلية النفس أولا عن تلك المثبطات والموانع عن رفع الهمة ثم بعد
ذلك تحليتها بموجبات علوها ومنها:
أولا: العلم والبصيرة: فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن الحضيض ويصفي
النية ويورث الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتقي فضول المباحات من الكلام والمنام
والنظر والطعام وينشغل بما هو أعلى منها.
ثانيا: إرادة الآخرة: بجعل الهم هما واحدا .. قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ
الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ
سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل
فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته
جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة". (صحيح ابن
ماجه).
ثالثا: كثرة ذكر الموت: فإنه الباعث الحثيث على إحسان العمل، والمسارعة إلى
الطاعات، وقد وقف صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: (إخواني ، لمثل هذا
اليوم فأعدوا ) رواه ابن ماجه بسند حسن.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلة الأموات.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد.. فإنه من أكثر من ذكر الموت
رضي من الدنيا باليسير.
ومن فارق ذكر الموت قلبه ساعة فسد قلبه.
رابعا: صحبة أولي الهمم ومطالعة أخبارهم: وانظر إلى أبي بكر لما كان صاحبه
هو أعلى الناس همة على الإطلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت به
الهمة أعلاها فكان خير الناس بعد النبيين والمرسلين، فلم ترض همته مجرد
دخول الجنة لا بل يريد أن ينادى عليه من أبوابها كلها كما ورد في صحيح
البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في
الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن
كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب
الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر رضي الله عنه
هل على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها
قال نعم وأرجو أن تكون منهم).
وانظر إلى أحمد والشافعي ، وكذلك الإمام أحمد مع يحيى بين معين فإنها صحبة
بلغت بأصحابها إمامة الناس في العلم والدين والورع.
أنت في الناس تقاس .. .. بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو.. .. وتنل ذكرا جميلا
خامسا: المجاهدة: وهو الصبر على النفس وسياستها وتعويدها بلوغ الغايات
وأعالى المقامات وعدم الرضا بالدون، وكلما جاهد الإنسان نفسه في بلوغ القمم
بلغها سواء في أمور الدنيا أو الآخرة" (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
(العنكبوت:69).
وأخيرا تربية الأولاد على علو الهمة : فالمرء على ماشب عليه، وإذا لم ينشأ
الطفل منذ صغره على علو الهمة وترك السفاسف فلن يفلح أبدا، وإذا كان ما
حولنا من إعلام ومناهج دراسة ومظاهر معيشة كلها لا يصب في صالح هذا الباب
وجب على أولياء الأمور الاهتمام بزرع ذلك في أولادهم، وقبل ذلك في أنفسهم
فإن فاقد الشيء لا يعطيه..
وإرادة فلا يخلو إنسان عن هم؛ ولذلك كان أصدق اسم يوصف به العبد أنه همام
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "... وأحب الأسماء إلى الله عبد
الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام..".
وجهة الصدق أن كل إنسان له إرادة وعنده اهتمام، كما قال المنذري: وإنما كان
حارث وهمام أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمام الذي يهيم مرة بعد
أخرى، وكل إنسان لا ينفيك عن هذين والله أعلم.
ولكن همم الناس تختلف بين علو وسفول وبين كبر وصغر وبين ضخامة ودناءة .
وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة .
فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب.
قيمة المرء على قدر همته:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة
تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب". (يريد همته ومطلبه وقصده).
وإنما كان الأمر كذلك لأن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها.. قال أحد
الصالحين: "همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت همته وصدق
فيها صلح له ما وراء ذلك من العمل".
وقال عبيد بن زياد : كان لي خال من كلب، فكان يقول لي: يا زياد هم فإن
الهمة نصف المروءة.
وعلامة كمال العقل ورجحانه علو همة صاحبه.. يقول ابن الجوزي: "من علامة
كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام"
ومعنى علو الهمة:
" استصغار ما دون النهاية من معالى الأمور" .. بمعنى أن يطلب المرء من كل
أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى
منه.
وقيل: "هو خروج النفس إلى غاية الكمال الممكن في العلم والعمل".
وقد فسر ابن الجوزي ذلك في صيد خاطره بقوله: "ينبغي لمن له أنفة أن يأنف
التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة ـ مثلا ـ تأتي بالكسب لم
يجز له أن يرضى بالولاية، أو تصور أن يكون خليفة لم يقنع بإمارة، ولو صح أن
يكون ملَكا لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها
الممكن في العلم والعمل".
وأعلى الهمم على الإطلاق هي التي لا تقف دون الله تعالى، ولا تطلب سواه،
ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه
والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها ولا حطامها الخسيس الفاني. كيف
والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب.
سقوط الهمة أصل الخذلان
إن سقوط الهمم وخساستها هو أصل ما وصلنا إليه من ذل وهوان وحقارة وخذلان،
وما من أمة يرضى أهلها بالأمر الواقع ولا تبلغ همم أبنائها أن يغيروه إلا
كان لهم الخزي والعار والذلة والصغار.
إن الهمم الكبار تغير التاريخ بل هي التي تسطره وتكتبه:
لقد رأينا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.. رجل واحد في
وسط عالم كامل من الشرك كيف عبّده بهمته لله رب العالمين؟.
ولقد رأينا أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كيف أسقطوا أكبر إمبراطوريتين
وأعظم دوليتين في زمنهم (فارس والروم) وفتحوا بلاد السند والهند والمغرب
والأندلس في فترة وجيزة هي كالحلم في عمر الزمان.
ولقد رأينا في زمان العز وعلو الهمم كيف كان المسلم في عهد صلاح الدين يربط
عشرات الأسرى في طنب خيمة.. ولقد باع مسلم أسيرا نصرانيا بنعل فلما سألوه
لماذا؟ قال: أردت أن يخلد التاريخ هوانهم وذلهم وأن رجلا منهم بيع بنعل،
فخلدها له التاريخ.
ثم مرت الأيام وقعدت الهمم ورأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم قعيد
الهمة (بل العدد منهم) أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب فيأتي بالسيف ليقتلهم
فيمنعهم الخوف أن يتحركوا حتى يعود إليهم فيقتلهم أجمعين!!
ومرت الأيام ورأينا كيف بيعت فلسطين بثمن بخس، وضاعت القدس، وسلب المسجد
الأقصى.
ومرت الأيام ورأينا كيف ضاعت العراق ورأينا كيف يركع الجندي العراقي أمام
نعلي الجندي الأمريكي طالبا منه العفو والصفح، وطالعتنا الأخبار بصورة رجل
هناك يقبل يدي جندي أمريكي شكرا له على تحرير البلاد!!
ومرت الأيام ورأينا في عصرنا شبابا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم إلا
عن السفاسف ومحقرات الأعمال، يمعنون في التشبه بالكفار في قصات الشعور وفي
أزياء الملابس، وبعضهم يعلق على سيارته أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم
وطأطأت أعناقهم وأهدرت كرامتهم واستعبدت أمتهم .
إن هذه الأمة إن أرادت أن تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها
فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها.. وإنما تعلو الهمم بأمور
خلاصتها تخلية وتحلية..
فأما التخلية فهي ترك مثبطات الهمم وأسباب انحطاطها.. ومنها:
أولا: حب الدنيا وكراهية الموت: وهما صنوان لا يفترقان، وقرينان لا
يختلفان من أحب الدنيا كره الموت ولابد.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، والانغماس في الشهوات
والتشاغل بها عن المهمات. وكراهية الموت يورث طول الأمل، والقعود عن
المكارم خشية المخاطر، والهمة لا تسكن قلبا جبانا:
حب السلامة يثني عزم صاحبه .. .. عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فحال خسيس الهمة كحال القائل :
أضحت تشجعني هند فقلت لها .. .. إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأمصار كعبته .. .. ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم .. .. إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم .. .. لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
فإذا أحببت الدنيا وكرهت الموت
فدع المكارم لا ترحل لبغيتها .. .. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ثانيا: الكسل والخمول: وهما منابت العجز، ولكنه عجز القادر على العمل
المتراخي عنه، المتثاقل إلى سفاسف الأمور، المتخلف عن عظائمها.. ومثل هذا
تراه دائما في ذيل الركب راضيا بأقبح الأعمال وأحقر الوظائف لقلة همته..
ولله در ابن الجوزي حين قال: "سفول همة الكساح أنزله في جب العذرة".
قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون
الآثار، وتناشدون الأشعار وقع عليَّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.
قال المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام
ثالثا: التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، كلما همت نفسه
بالخير أعاقها بسوف حتى يأتيه الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب.
فالتمني بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا .. .. إن المنى رأس أموال المفاليس
قال رجل لابن سيرين: رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح
فما تفسير ذلك؟ قال أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
رابعا: مصاحبة سافل الهمة: فيسرق طبعك منه فإن الطباع سراقة
ولا تجلس إلى أهل الدنايا .. .. فإن خلائق السفهاء تعدي
خامسا: الانشغال بحقوق الزوجة والأولاد: بمعنى الإمعان في تحقيق رغباتهم
وطلباتهم خاصة مالا حاجة له وإن ضاع لها العمر أو حمل ذلك على تعدي حدود
الشرع وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
(التغابن:14)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) .
موجبات علو الهمة
فلابد من تخلية النفس أولا عن تلك المثبطات والموانع عن رفع الهمة ثم بعد
ذلك تحليتها بموجبات علوها ومنها:
أولا: العلم والبصيرة: فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن الحضيض ويصفي
النية ويورث الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتقي فضول المباحات من الكلام والمنام
والنظر والطعام وينشغل بما هو أعلى منها.
ثانيا: إرادة الآخرة: بجعل الهم هما واحدا .. قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ
الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ
سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل
فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته
جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة". (صحيح ابن
ماجه).
ثالثا: كثرة ذكر الموت: فإنه الباعث الحثيث على إحسان العمل، والمسارعة إلى
الطاعات، وقد وقف صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: (إخواني ، لمثل هذا
اليوم فأعدوا ) رواه ابن ماجه بسند حسن.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلة الأموات.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد.. فإنه من أكثر من ذكر الموت
رضي من الدنيا باليسير.
ومن فارق ذكر الموت قلبه ساعة فسد قلبه.
رابعا: صحبة أولي الهمم ومطالعة أخبارهم: وانظر إلى أبي بكر لما كان صاحبه
هو أعلى الناس همة على الإطلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت به
الهمة أعلاها فكان خير الناس بعد النبيين والمرسلين، فلم ترض همته مجرد
دخول الجنة لا بل يريد أن ينادى عليه من أبوابها كلها كما ورد في صحيح
البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في
الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن
كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب
الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر رضي الله عنه
هل على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها
قال نعم وأرجو أن تكون منهم).
وانظر إلى أحمد والشافعي ، وكذلك الإمام أحمد مع يحيى بين معين فإنها صحبة
بلغت بأصحابها إمامة الناس في العلم والدين والورع.
أنت في الناس تقاس .. .. بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو.. .. وتنل ذكرا جميلا
خامسا: المجاهدة: وهو الصبر على النفس وسياستها وتعويدها بلوغ الغايات
وأعالى المقامات وعدم الرضا بالدون، وكلما جاهد الإنسان نفسه في بلوغ القمم
بلغها سواء في أمور الدنيا أو الآخرة" (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
(العنكبوت:69).
وأخيرا تربية الأولاد على علو الهمة : فالمرء على ماشب عليه، وإذا لم ينشأ
الطفل منذ صغره على علو الهمة وترك السفاسف فلن يفلح أبدا، وإذا كان ما
حولنا من إعلام ومناهج دراسة ومظاهر معيشة كلها لا يصب في صالح هذا الباب
وجب على أولياء الأمور الاهتمام بزرع ذلك في أولادهم، وقبل ذلك في أنفسهم
فإن فاقد الشيء لا يعطيه..